فصل: فَصْل فيما ورد فِي مدح الصبر والحث عَلَيْه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل فيما ورد فِي مدح الصبر والحث عَلَيْه:

وكما ورد فِي مدح الصبر والحث عَلَيْهِ آيات، ذكرنا طرفًا مَنْهَا فكَذَلِكَ وردت أحاديث نذكر إن شاء الله طرفًا مَنْهَا من ذَلِكَ ما ورد عَنْ صهيب بن سنان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المُؤْمِن إن أمره كله خَيْر ولَيْسَ ذَلِكَ لأحد إلا للمُؤْمِنِ إن أصابته سراء شكر فكَانَ خيرا لَهُ وإن إصابته ضراء صبر فكَانَ خيرًا لَهُ». رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر». متفق عَلَيْهِ.
وعن أبي مالك الحارث بن عاصم الاشعرى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإِيمَان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السموات والأَرْض، والصَّلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلّ النَّاس يغدو فبائع نَفْسهُ فمعتقها أَوْ موبقها». رَوَاهُ مُسْلِم.
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ما يصيب المُؤْمِن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حَتَّى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه». متفق عَلَيْهِ.
وعن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أراد الله بعبده الْخَيْر عجل لَهُ العقوبة فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أراد الله بعبده الشَّر أمسك عَنْهُ بذنبه حَتَّى يوافى به يوم القيامة». وَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مَعَ عظم البَلاء، وإن الله إِذَا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضَا ومن سخط فله السخط». رَوَاهُ الترمذي وقَالَ: حديث حسن.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الَّذِي يملك نَفْسهُ عَنْدَ الْغَضَب». متفق عَلَيْهِ. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البَلاء بالمُؤْمِن والمؤمنة فِي نَفْسهُ وولده وماله حَتَّى يلقى الله وما عَلَيْهِ خطيئة». رَوَاهُ الترمذي. وقَالَ: حديث حسن صحيح.
وعن مصعب بن سعد عَنْ أبيه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أي النَّاس أشد بَلاء، قَالَ: «الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل حسب دينه فَإِنَّ كَانَ فِي دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كَانَ فِي دينه رقة ابتلاه الله حسب دينه، فما يبرح البَلاء فِي الْعَبْد حَتَّى يمشي على الأَرْض وما عَلَيْهِ خطيئة». رَوَاهُ ابن ماجة وابن أبي الدُّنْيَا والترمذي وقَالَ: حديث حسن صحيح.
عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يزال البَلاء بالمُؤْمِن والمؤمنة فِي جسده وَفِي ماله وَفِي ولده حَتَّى يلقى الله وما عَلَيْهِ خطيئة». وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ: دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ لَهُ رسول الله: «أخذتك أم ملدم؟» قَالَ: وما أم ملدم؟ قَالَ: «حر يكون بين الجلد واللحم». قَالَ: ما وجدت هَذَا قط. قَالَ: «فهل أخذك الصداع». قَالَ: وما الصداع. قَالَ: «عرق يضرب على الإِنْسَان فِي رأسه». قَالَ: ما وجدت هَذَا قط فَلَمَّا ولى قَالَ: «من أحب أن ينظر إِلَى رجل من أهل النار فلينظر إِلَى هَذَا». رَوَاهُ أحمد.
وعن جابر قَالَ: استأذنت الحمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: «من هَذِهِ» قَالَتْ: أم ملدم فأمر بها إِلَى أَهْل قباء فلقوا مَنْهَا ما يعلم الله فأتوه فشكو ذَلِكَ إليه قَالَ: «ما شئتم إن شئتم أن أدعو الله فيكشفها عنكم وإن شئتم أن تَكُون لكم طهورًا». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ يفعل. قَالَ: «نعم» قَالُوا: فدعها يَا رَسُولَ اللهِ.
تَطْرُقُ أَهْلُ الْفَضْلِ دَونَ الْوَرَى ** مَصَائِب الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا

كَالطَّيْرِ لا يُسْجَنُ مِنْ بِيْنَهَا ** إِلا الَّتِي تُطْرَبُ أَصْوَاتُهَا

ولابن حبان فِي صحيحه من رواية العلاء بن المسيب عَنْ أبيه عَنْ سعد قَالَ: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي النَّاس أشد بَلاء قَالَ: «الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل يبتلى النَّاس على حسب دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بَلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البَلاء حَتَّى يمشي فِي النَّاس وما عَلَيْهِ خطيئة».
وعن أبي سعيد أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ موعوك عَلَيْهِ قطيفة فوضع يده فوق القطيفة، فقَالَ: ما أشد حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِنَّا كَذَلِكَ يُشَدَّدُ عَلَيْنَا البَلاء ويضاعف لَنَا الأجر».
ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ من أشد النَّاس بَلاء؟ قال: «الأَنْبِيَاء»، قَالَ: ثُمَّ من؟ قَالَ: «الْعُلَمَاء». قَالَ: ثُمَّ من؟ قَالَ: «الصالحون كَانَ أحدهم يُبْتَلى بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُله وَيُبْتَلى أَحدهم بالفقر حَتَّى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ولا أحدهم كَانَ أَشد فَرَحًا بالبَلاء من أحدكم بالعطاء». رَوَاهُ ابن ماجة وابن أبي الدُّنْيَا والحاكم واللفظ لَهُ وقَالَ: صحيح على شرط مُسْلِم.
وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليكون لَهُ عَنْدَ الله المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حَتَّى يبلغه إياها». رَوَاهُ أبو يعلى وابن حبان فِي صحيحه من طريقه وَغَيْرِهمَا.
وعن مُحَمَّد بن خالد عَنْ أبيه عَنْ جده وكَانَتْ لَهُ صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إن الْعَبْد إِذَا سبقت لَهُ من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله فِي جسده، أَوْ ماله، أَوْ فِي ولده، ثُمَّ صبر على ذَلِكَ حَتَّى يبلغه المنزلة التي سبقت لَهُ من الله عَزَّ وَجَلَّ». رَوَاهُ أحمد وَأَبُو دَاود وأبو يعلى والطبراني فِي الكبير والأوسط.
وَرُوِيَ فيه أيضًا عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليجرب أحدكم بالبَلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار، فمنه ما يخَرَجَ كالذهب الإبريز فذاك الَّذِي حماه الله من الشبهات ومنه ما يخَرَجَ دون ذَلِكَ فَذَلِكَ الَّذِي يشك بَعْض الشك ومنه ما يخَرَجَ كالذهب الأسود فَذَلِكَ الَّذِي افتتن». وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.موعظة:

عباد الله كلنا ولله الحمد قَدْ رضي بِاللهِ ربًا وبالإسلام دينًا، وبمُحَمَّد نبيًا ورسولاً، وبالقرآن إمامًا، والكعبة قبلة، وبالْمُؤْمِنِينَ إِخوانًا وتبرأنَا من كُلّ دين يخالف دين الإِسْلام، وآمنا بكل كتاب أَنزله الله وبكل رسول أرسله الله، وبملائكة الله وبالقدر خيره وشره وبالْيَوْم الآخِر وبكل ما جَاءَ به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم عَنْ الله، على ذَلِكَ نحيا وعَلَيْهِ نموت، وعَلَيْهِ نَبْعَث إنشاء الله من الآمنين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون بفضله وكرمه.
ثُمَّ اعلموا معاشر الإِخْوَان أنَّه من رضي بِاللهِ ربًا لزمه أن يرضى بتدبيره، واختياره لَهُ، وبمر قضائه، وأَن يقنع بما قسم لَهُ من الرزق، وأن يداوم على طاعته، ويحافظ على فرائضه، ويجتنب محارمه، ويكون صابرًا عَنْدَ بلائه، موطنًا نَفْسهُ على ما يصيبه من الشدائد، بعيدًا كل البعد عَنْ نار الجزع، التي تتأجج فِي قلب كُلّ امرئ يجهل بارئه ومولاه.
فإن رَأَيْت نفسك أيها الأخ تريد أن تجزع عَنْدَ ملمة، فقف أمامها موقف الناصح القدير، أفهمها أنها هِيَ السبب فيما أنزل الله بها من بَلاء صغير أَوْ كبير.
وإن لم تصدقك فاقرأ عَلَيْهَا قول الله تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} فإنها إِذَا سمعت ذَلِكَ وجهت اللوم إلى نفسها على معاصيها، وهدأت الثورة الثقِيْلة.
وأفهمها أن لَيْسَ بينها ولا بين ربها عداوة، فإنه بعباده الرءوف الرحيم، وأفهمها أن البلايا قَدْ تلزم الْعَبْد حَتَّى يصبح مغفورة ذنوبه كُلّهَا، صغيرها، والكبير، وأفهمها أن نتيجة ذَلِكَ أن صَاحِب البلايا يأتي يوم القيامة فِي أمن مولاه الكريم.
فعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يصب منه». رَوَاهُ الْبُخَارِيّ. وَفِي حديث أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «إِذَا أراد الله بعبده الْخَيْر عجل لَهُ العقوبة فِي الدُّنْيَا».
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مَعَ عظم البَلاء وإن الله إِذَا أحب قومًا ابتلاهم». الْحَدِيث.
وفي حديث أبي هريرة قَالَ: قَالَ: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يزل البَلاء بالمُؤْمِن والمؤمنة فِي نَفْسهُ وولده وماله حَتَّى يلقى الله تَعَالَى وما عَلَيْهِ خطيئة». رَوَاهُ الترمذي، وقَالَ: حديث حسن صحيح، أَفْهِمْ نفسك كُلّ ذَلِكَ فإنه يخفف عَنْهَا آلام البلايا، وَرُبَّمَا جعلها من المحبوبات.
وأفهمها أن الله وعد الصابرين أن يجزيهم أجرهم بغير حساب وأفهمها أن الله حكيم فِي كُلّ تصرفاته، وقل لها أن الجزع لا يرد ما نزل من البلاء أبدًا، بل ما دبره الحكيم العليم لابد من وقوعه فلا فائدة فِي الجزع والحزن، وقل إن عاقبة الجزع والتسخط النار، وعاقبة الصبر والرِّضَا بما قضاه الله الْجَنَّة، وقل أن شماتة الأعداء فِي الجزع، وغيظهم فِي الصبر، الَّذِي يتأكد لزومه على الرِّجَال والنساء.
وتأكد واطمئن أنها إِذَا سمعت منك كُلّ ذَلِكَ رضيت بإذن الله كُلّ الرِّضَا، ولزمت الآداب، فتعيش كُلّ حياتها تروح وتغتدي فِي جنة رضاها، مهما برحت بها البلايا والأوصاب، وبذَلِكَ مَعَ توفيق الله تَعَالَى تجمَعَ بين سعادة الدُّنْيَا والآخِرَة وهكَذَا تَكُون عواقب الصابرين الأبطال.
وَأَصْبَحْتُ فِيمَا كُنْتُ أَبْغِي مِنَ الْغِنَا ** إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ أَحْوَجَا

وَحَسِبْتُ نَفْسِي بَيْنَ وَبَيْتِي وَمَسْجِدِي ** وقَدْ صِرْتُ مِثْل النِّسْرِ أَهْوَى التَّعَرّجَا

آخر:
مَا أَحْسَنَ الصَّبْر فِي الدُّنْيَا وَأَجْمَلَهُ ** عَنْدَ الإِلَهِ وَأنْجَاهْ مِنْ الْجَزَعِ

مَنْ شَدَّ بِالصَّبْرِ كَفًا عِنْدَ مُؤْلِمَةٍ ** أَلْوَتْ يَدَاهُ بِحَبْلٍ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ

اللَّهُمَّ نور قلوبنا واشرح صدورنا ويسر أمورنا وأحسن منقلبنا وأيدنا بروح منك وَوَفِّقْنَا لما تحبه وترضاه وثبتنا بالقول الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة واغفر لَنَا ذنوبنا واستر عيوبنا واكشف كروبنا وأصلح ذات بينا وألف فِي طَاعَتكَ وطاعة رسولك بين قلوبنا واغفر لَنَا ولوالدين وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.فَصْل فِي مدح الصبر وبيان شرفه وعلو مكانته:

ويكفي فِي مدح الصبر وشرفه وعلو مكانته وأَنَّه لا يناله إلا من وفقه الله، أن الصبر طريقة الرسل عَلَيْهمْ أفضل الصَّلاة والسَّلام، فقَدْ قَالَ الله تَعَالَى لنبيه صلى الله عليه وسلم وصفوة خلقه: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ}، وقَالَ: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}.
فبين تَعَالَى أن كُلَّ رسول أرسله إِلَى أمة من الأمم لاقى أذىً وألمًا من قومه وتكذيبًا، وقَالَ لرسوله صلى الله عليه وسلم: آمرًا ومسليًا: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} الآية.
ألا وإن من حكمة الله فِي تعريض صفوة خلقه لهذه المكاره والأذايا وفي أمرهم بالصبر عَلَيْهَا إفهامًا لخلقه أَنَّ الدُّنْيَا دار بَلاءٍ واختبارٍ، لا دار مقامٍ ولذةٍ، واستقرارٍ، وأنها محدودة الأجل، مقصود مَنْهَا صالح الْعَمَل.
فَانْظُرْ إِلَى آدم عَلَيْهِ السَّلام وما نزل به الآلام والأحزان أَخْرَجَهُ الله بفتنة إبلَيْسَ من جنته وأهبطه إِلَى الأَرْض ليعمرها هُوَ وأبناؤه، وهي دار العناء والفناء وذاق ثكل ولده هابيل باعتداء أخيه عَلَيْهِ قابيل.
وانظر أول رسول أرسل إِلَى أَهْل الأَرْض نوح عَلَيْهِ وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام وقَدْ مكث يدعو قومه ألف سُنَّة إلا خمسين عامًا 950 وهم يهزؤون ويسخرون منه يدعوهم ليلاً ونهارًا سرًا وجهارًا ولم يتوانَا ولم يضجر ولم يمل بل واصل الجهود النبيلة الْخَالِصَة الكريمة بلا مصلحة لَهُ ولا منفعة مِنْهُمْ.
ويحتمل فِي سبيل هَذِهِ الدعوة الاستكبار والإعراض، هَذِهِ المدة الطويلة والمستجيبون لا يزيدون، والمعرضون فِي زيادة، ولما أيس من إيمانهم أمر أن يصنع الفلك فكَانُوا إِذَا مروا عَلَيْهِ ضحكوا منه وسخروا وقَالُوا كَانَ بالأمس نبيًا والْيَوْم نجارًا ولا يزيد من جوابه على أن يَقُولُ: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحَِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}.
وزَادَ بلاؤه أن أُغْرِقَ ابنه ينظر إليه ولا يستطيع لَهُ إنقاذًا إذ قَدْ غلب على الابن الشقاء فناجى ربه نوح فقَالَ لَهُ ربه: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}.
ثُمَّ انظر إِلَى شيخ المرسلين وَجَدَ الْمُسْلِمِين خليل الرحمن عَلَيْهِ السَّلام وما تجرع من الغصص والآلام فقَدْ جد فِي دعوة أبيه إِلَى التَّوْحِيد حَتَّى هدده أبوه بالرجم والتعذيب وقومه قَالُوا: اقتلوه أَوْ احرقوه ثُمَّ ما جرى عَلَيْهِ حين أمر بذبح ابنه فأقَدِمَ عَلَى ذلك.
ثُمَّ انظر إِلَى مُوَسى وما جرى عَلَيْهِ وما لا قى فِي أول أمره وآخره مَعَ فرعون لعنه الله وقومه ثُمَّ انظر إِلَى عيسى عَلَيْهِ السَّلام وما لقيه من قذف أمه وقذفه رضي الله عنهما واضطهاد بنى إسرائيل قومه حَتَّى ائتمروا على صلبه.
ثُمَّ انظر إِلَى لوط عَلَيْهِ السَّلام وما جرى لَهُ مَعَ قومه المنحرفين الشاذين المستهترين بالنذر، قَالَ تَعَالَى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} الآية، فصبر إِلَى أن نصره الله وأرسل على قومه حاصبًا وجعل عاليها سافلها واللهُ على كُلّ شَيْء قدير وَهُوَ نعم المولى ونعم النصير.
ثَمَانِيَةٌ حَتْمٌ عَلَى سَائِرِ الْوَرَى ** فَكُلّ امْرِئٍ لا بُدَّهُ مِنْ ثَمَانِيَهْ

سُرُورٌ وَاجْتِمَاعٌ وَفُرْقَة ** وَعُسْر وَيُسْر ثُمَّ سِقَم وَعَافِيَهْ

آخر:
إِنَّ الْحَيَاةَ مَنَامٌ وَالْمَآل بِنَا ** إِلَى انْتِبَاه وَآتٍ مِثْل مُنْعَدِمِ

وَنَحْنُ فِي سَفَرٍ نَمْضِي إِلَى حُفَرٍ ** فَكُلُّ آنٍ لَنَا قُرْبٌ مِنْ عَدَمِ

وَالْمَوْتُ يَشْمُلُنَا وَالْحَشْرُ يَجْمَعُنَا ** وَبِالتُّقَى الْفَخْرُ لا بِالْمَالِ وَالْحَشَمِ

صُنْ بِالتَّعَفُّفِ عِزَّ النَّفْسَ مُجْتَهِدًا ** فَالنَّفْس أَعْلَى مِن الدُّنْيَا لِذِي الْهِمَم

وَاغْضُضْ عُيُونَكَ عَنْ عَيْب الأَنَام وَكُنْ ** بِعَيْبِ نَفْسِكَ مَشْغُولاً عَنْ الأُمَمِ

فَإِنَّ عَيْبَكَ تَبْدُو فِيكَ وَصَمْتُهُ ** وَأَنْتَ مِنْ عَيْبِهِمْ خَال مِنَ الوَصْم

جَازِي الْمُسِيء بِإِحْسِانٍ لِتَمْلِكَهُ ** وَكُنْ كَعَوْدٍ يِفُوحُ الطِّيب فِي الضَّرْمِ

وَمَنْ تَطَلَّبَ خِلا غَيْرَ ذَي عِوَجٍ ** يَكُنْ كَطَالِبِ مَاءٍ مِنْ لَظَى الْفَحْمِ

وقَدْ سَمِعْنَا حِكَايَاتِ الصِّدْيِق وِلَمْ ** نَخُلْهُ إِلا خَيَالاً كَانَ فِي الْحِلْمِ

إِنَّ الإقَامَةِ فِي أَرْضٍ تُظَام بِهَا ** وَالأَرْضُ وَاسِعَةٌ ذُلٌّ فَلا تُقِمِ

وَلا كَمِال بِدَارٍ لا بَقَاءَ لَهَا ** فَيَا لَهَا قِسْمَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْقِسَمِ

دَارٌ حَلاوَتُهَا لِلْجَاهِلِينَ بِهَا ** وَمُرُّهَا لِذَوِي الأَلْبَاب وَالْهِمَمِ

أَبْغِي الْخَلاصِ وَمَا أَخْلَصْتَ فِي عَمَلٍ ** أَرْجُو النّجَاة وَمَا نَاجَيْتَ فِي الظُّلْمِ

لَكِنْ لِي أَملاً فِي الله يُؤْنِسُنِي ** وَحُسْنُ ظَنِّ بِهِ ذَا الْجُود وَالْكَرَم

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكْ فِي قلوبنا وقوها، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا محبة أوليائك وبغض أعدائك وهجرانهم والابتعاد عنهم واغفر لَنَا، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الأَبْرَار واسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللهم وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ والمبادرة إِلَى خدمتك وحسن الآدَاب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لنعمائك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأحياء مِنْهُمْ والميتينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله صحبه أجمعين.
فَصْل:
ثُمَّ انظر إِلَى خطيب الأَنْبِيَاء عَلَيْهِ السَّلام، وما لاقى من قومه المتمردين على الحق والعدل، المفسدين فِي الأَرْض قطاع الطرق، والظلمة الَّذِينَ يفتنون النَّاس عَنْ دينهم، ويصدونهم، المقاتلين لمن يدعوهم إِلَى الأَعْمَال الصَّالِحَة والأَخْلاق الفاضلة بالقَسْوَة والغلظة، حيث يقولون: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ} الآية.
ثُمَّ انظر إِلَى صالح عَلَيْهِ السَّلام حين دعاء قومه وما قابلوه به حين جَاءَ بالبينة الدالة على صدقه، فيعتدون عَلَيْهَا ويتحدونه باستعجال الْعَذَاب.
ثُمَّ انظر إِلَى هود عَلَيْهِ السَّلام، واتهام قومه لَهُ بالسفاهة والكذب بلا ترو مِنْهُمْ ولا تدبر ولا دَلِيل، وأخيرًا يتحدونه بالْعَذَاب.
وانظر إِلَى يونس وما لقي من قومه حَتَّى ضاق صدره بتكذيب قومه فأنذرهم بعذاب قريب، وغادرهم مغضبًا آبقًا فقاده الْغَضَب إِلَى شاطئ البحر، حيث ركب سفينةً مشحونةً وَفِي وسط لجة البحر ناوأتها الرياح والأمواج وأشرفت على الغرق، فساهموا على أن من تقع القرعة عَلَيْهِ يلقى فِي البحر لتخف السَّفِينَة فوقعت القرعة على يونس نَبِيّ اللهِ ثلاث مرات وهم يبخلون به أن يلقى من بينهم.
فتجرد من ثيابه ليلقي نَفْسهُ وهم يأبون عَلَيْهِ ذَلِكَ، وأمر الله تَعَالَى حوتًا من البحر الأخضر أن يشق البحار وأن يلتقم يونس عَلَيْهِ السَّلام، ولا يهشم لَهُ لحمًا ولا يكسر لَهُ عظمًا فَجَاءَ ذَلِكَ الحوت وألقى يونس نَفْسهُ فالتقمه الحوت وذهب به.
ولما استقر يونس فِي بطن الحوت حسب أنه قَدْ مَاتَ، ثُمَّ حرك رأسه ورجليه، وأطرافه، فإذا هُوَ حي فقام فصلى فِي بطن الحوت، وكَانَ من جملة دعائه يَا رب اتخذت لَكَ مَسْجِدًا فِي موضع لم يبلغه أحد من النَّاس، فهَذَا ما لقيه يونس عَلَيْهِ السَّلام، ذكر ذَلِكَ بَعْض الْعُلَمَاء رحمهم الله.
ثُمَّ إِلَى ما لقيه صفوة الخلق مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من قومه، من التكذيب والاستهزاء، والإيذاء في نَفْسهُ، وفيمن يتبعه من المستضعفين، حَتَّى ائتمروا على قتله، فهاجر إِلَى الْمَدِينَة تاركًا وطنه وعشيرته، وانظر ما لقيه فِي حروبهم، وقَدْ جرحوه، وكسروا رباعيته حَتَّى سال دمه.
إذا نظرت إِلَى ذَلِكَ وإلى غيره علمت أنَّ الدُّنْيَا مشحونة بالمصائب والأنكاد، وأنها دار ممر لا دار مقر، ولو كَانَتْ دار مقر واطمئنان، لكَانَ أولى بذَلِكَ رسل الله، وأنبياؤه، وأصفياؤه فالعاقل من يحرص على عقيدته الدينية كما يحرص على روحه فيحصنها من الزيغ والضلال، ويقوم بما فرض الله عَلَيْهِ، ويجتنب ما نهى الله عَنْهُ صابرًا على ما قدره الله عَلَيْهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.